فصل: قال المراغي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)}.

.تفسير المفردات:

الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال:
ألف الصّفون فما يزال كأنّه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال النابغة:
لنا قبّة مضروبة بفنائها ** عتاق المهارى والجياد الصوافن

والجياد: واحدها جواد، وهو السريع العدو، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد، والخير هنا: الخيل: توارت: أي غيبت عن البصر، طفق: شرع، المسح إمرار اليد على الجسم.

.الإيضاح:

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ} أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان.
ونحو الآية قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}.
ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات، اعتقادا منه بأن كل شيء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ} أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار، لينظر إليها ويتعرف أحوالها، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره.
وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلّص.
{فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه، ومن الخير أن يزداد شغفه به، وتلك هي غاية المحبة، فسليمان عليه السلام يقول: إنى أحب حبى لهذه الخيل، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى.
{حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي:
أثارت سنابكها عليها عثيرا ** لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا

فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة {إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى} وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة، ولبعد المسافة من جهة أخرى.
وبعد أن اطمأن إلى حالها، وحمد جميل أمرها قال: {رُدُّوها عَلَيَّ} فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات، من غزو وغيره.
ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ- أظهر استحسانه لها ولفرسانها.
{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه، إذ هي أعظم الأعوان، في دفع العدوان، ولاسيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء.
والخلاصة- إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال إنى ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر اللّه وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضى.
[سورة ص: الآيات 34- 40]:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ (34)}.

.تفسير المفردات:

فتنّا سليمان: أي ابتليناه بمرض، جسدا: أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، أناب: أي رجع إلى صحته، لا ينبغى لأحد من بعدي: أي لا ينتقل منى إلى غيرى، رخاء: أي لينة، أصاب: أي قصد وأراد، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول:
أصاب الصواب فأخطأ الجواب، قال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع ** فأخطأ الجواب لدى المفصل

مقرّنين: أي مربوطين، والأصفاد: واحدها صفد بالتحريك وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق، قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا ** وأبنا بالملوك مصفّدينا

والزلفى: الكرامة، والمآب: المرجع.

.الإيضاح:

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ} أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه، لشدة وطأته عليه والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.
{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} طلب المغفرة من ربه، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن هذا في مقام التذلل والخضوع كما قال عليه السلام: «إنى لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة».
وما روى من قصص الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين، وأبى قبولها العلماء الراسخون.
ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى اللّه عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب. اهـ.
{وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي هب لى ملكا لا يكون لأحد غيرى لعظمه.
قال صاحب الكشاف: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة، فذلك معنى قوله: لا ينبغى لأحد من بعدي. اهـ.
وقيل إنه أراد بقوله: لا ينبغى لأحد من بعدي- الدلالة على عظمه وسعته كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
ثم علل المغفرة والهبة معا فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبى، وحقق رجائى.
ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال:
(1) {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أي جهة قصد.
ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً} لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها، فهى تشتد حين الحلّ، وتلين حين السير.
(2) {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم، يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا.
(3) {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم.
وخلاصة ما سلف- إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال، كفّا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره.
وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه.
ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال: {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} أي وقلنا له: إن هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى- عطاؤنا الخاص بك، فأعط من شئت، وامنع من شئت غير محاسب على شيء من ذلك، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.
وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها، أبان ماله في الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، ويفوز برضا ربه، وعظيم كرامته. جعلنا اللّه ممن كتبت له السعادة في الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الواو للاستئناف، وعطف حدث على حدث.. أو هي للعطف على قوله تعالى: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.. أي فغفرنا لداود ما كان منه، ووهبنا له سليمان.. ويكون ما بين المتعاطفين اعتراضا، يراد به التعقيب على القصة، والإلفات إليها، والوقوف موقف التأمل عندها.
وأيّاما كان، فإن ذكر سليمان هنا، وأنه مما وهبه اللّه لداود، هو مما يشير إلى فضل اللّه سبحانه، وإحسانه إلى عبده داود، بعد خطيئته، واستغفاره وندمه، وقبول اللّه توبته. وهكذا يبتلى اللّه سبحانه المصطفين من عباده بما يبتليهم به من مكروه، ثم يخرجهم من هذا المكروه، أصفى جوهرا، وأضوأ نورا، وأكثر إشراقا وألقا. وأن سليمان هذا، إنما هو هبة من هبات اللّه العظيمة، وعطاء من عطاياه الجليلة المسوقة إلى عبد من عباده المحسنين، بعد هذا الابتلاء العظيم، وبعد تلك المحنة القاسية.
وفى قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ} ثناء عظيم من المولى سبحانه وتعالى، على سليمان، وعلى داود أيضا، إذ كان ذلك الابن هبة له من ربه.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} إشارة إلى أنه كثير الأوب والرجوع إلى اللّه وأنه مع الملك العظيم الذي جعله اللّه بين يديه، كان على صلة وثيقة بربه.
فلم يقطعه الملك عن ذكر ربه، بل إنه كلما كانت له نظرة إلى ملكه كانت له إلى ربه نظرات.
وفى وصف سليمان بالصفة التي وصف بها أبوه داود، وهى الأواب إشارة إلى أنهما على درجة واحدة من الاتصال بربهم، والرجوع إليه دائما.
ثم إنه إشارة أخرى إلى أن سليمان سيقع منه ما وقع لأبيه من فتنة وابتلاء، ثم من استغفار وندم، ثم من توبة وقبول من اللّه، وعطاء جزل عظيم، بعد هذا القبول والرضا من رب العالمين.
قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} إذ: ظرف يبيّن حالا من أحوال سليمان في أوبه إلى اللّه.. أي ومن أو به إلى اللّه ورجوعه إليه، موقفه هذا الذي كان منه حين عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.
والصافنات: الخيل الواقفة على ثلاث قواتم، على حين تكون الرابعة قائمة على حرف الحافر.. وهذا من علامات الكرم والأصالة في الخيل.. أما ذوات الحافر الأخرى، كالحمير والخيل غير الكريمة، فإنها تقف على قوائمها الأربعة، متمكنة من الأرض على سواء.. يقول عمرو بن كلثوم في معلقته، يصف كرام الخيل التي يقتنونها، ويحاربون عليها:
وسيّد معشر قد توّجوه ** بتاج الملك يحمى المحجرينا